فن

«برلينالة» معجزة الخلود: الثقافة كأداة للمقاومة

كيف يمنح الفنان للسينما كرامة مقاومته.. نص الخطاب العظيم للممثلة الاسكتلندية تيلدا سوينتون في حفل افتتاح مهرجان برلين السينمائي الـ75.

future الممثلة الاسكتلندية تيلدا سوينتون أثناء حديثها في حفل افتتاح مهرجان برلين السينمائي الـ75، خلال تكريمها بجائزة الدب الفخري 2025 عن مجمل أعمالها وإنجازاتها المهنية على مدار العقود الأخيرة
خطاب الممثلة الاسكتلندية تيلدا سوينتون في حفل افتتاح مهرجان برلين السينمائي الـ75، خلال تكريمها بجائزة الدب الفخري 2025 عن مجمل أعمالها وإنجازاتها المهنية على مدار العقود الأخيرة. ترجمة: رامي سيد حسانين

أيها البشر الأعزاء

ها هو واحد من أعظم الأمور التي يمكن أن تحدث لشاب تملؤه الرغبة في استكشاف العالم ومعرفة كيف يعيش فيه. أن يجد نفسه هنا، في مهرجان برلين الدولي.

عندما أتيت إلى هذا المهرجان لأول مرة، كنت في الخامسة والعشرين، أبحث عن حياتي، أبحث عن العالم، وعن إشارات تدل على حياة البشر فيه، وعن مكاني وسط كل ذلك. كنت في رحلة بحث عن الدهشة، عن التضامن، عن الروابط الإنسانية.

ويمكنني القول إنني وجدت كل ذلك هنا دفعة واحدة، ولم أفقده منذ ذلك الحين. أربعون عامًا من الرفقة والصداقة مع صناع الأفلام من جميع أنحاء العالم، مع جمهور مخلص لسينما بلا حدود، ومع الإمكانيات اللانهائية لصناعة الأفلام، بكل ما فيها من متعة وإثارة.

برلينالة معجزة الخلود

عندما تكرّمونني اليوم، فإنكم تكرّمون كل ذلك. لكنني أصنع الأفلام أولًا وقبل كل شيء كواحدة من عشاق السينما، ولهذا السبب تحديدًا أفعل ذلك. فهناك شيء لا يتغير أبدًا، وهو ما ستشاهدونه خلال الأيام العشرة القادمة: وليمة للقلب، بلسم للروح، ظلام يعقبه نور، هدوء يحرر الصوت، مساحة لا مقاطعة فيها، دعوة مفتوحة للتأمل، والتواجد وسط هذا الخليط الإنساني الهائل، والثقة في أنك قد تشعر للحظة واحدة أنك تشبههم جميعًا.قفزة إيمان، دخان ومرايا، شعاع من الضوء.

ولأن هذا أيضًا مهم، فهناك الصداقات التي تنشأ مدى الحياة—في لجان التحكيم، والعروض، وموائد الإفطار، والنوادي الليلية، وطوابير القهوة، وعلى نواصي الشوارع.

برلينالة (مهرجان برلين السينيمائي الدولي).. ومن خلاله، تتسع رؤيتنا لنرى أكثر من وجه واحد للأشياء. ذلك الإحساس بأنك تتغير، تتحدّى نفسك، تختبر قناعاتك. تشعر أنك أكثر أمانًا، وأكثر جرأة. تمسك بقيمك بين أصابعك، تتأملها، تتساءل بشأنها. إدراك عميق، تروس تدور تحت الماء، وأجراس تدق في الأعماق.. لأن هناك سحر التفاصيل المعلّقة في الفضاء، متاحة لكل البشر.

معجزة الخلود التي يمكن لكل إنسان أن يختبرها. الجمال الأخّاذ الذي لا يُضاهى للأرض. القيمة الحقيقية للكلام المنطوق، والقيمة الحقيقية للصمت. نعمة الوجه غير المشاهد، هشاشة الإنسان وصلابته وهو يعيش ويمضي قدمًا، في كل زمان ومكان.

الفائدة الجليّة للسينما بكل اتساعها وجنونها. وكم، كم، كم، كم، كم، كم من الأفلام!

أنا سعيدة جدًا لأن الثلج يتساقط اليوم. وكأننا في عام 1986. في ذلك الوقت، كان الثلج يتساقط كل عام هنا. في أول مهرجان برلينالة حضرته، كنا نحمل الثلج معنا على أحذيتنا إلى مقهى Zuppa Lust.

في ذلك الوقت، كان فيرنر شروتر يعرض فيلم ملك الورد في سينما دلفي، وتم تدشين جوائز تيدي. كان الجدار لا يزال قائمًا، وكنا نرى في العبور إلى الشرق مهمة ضرورية بحثًا عن أسطوانات موسيقية نادرة ورؤية أوسع.

الثقافة كأداة مقاومة

لكن عقولنا كانت مركزة هنا، في هذا المكان الذي لا يعترف بالحدود، في هذا الفضاء حيث كنا نمنح السينما كرامة مقاومتنا، وعزمنا على العثور على رابطة إنسانية نستطيع الإيمان بها.

وهذا ما أدركناه حينها: نستطيع أن نكون أفضل كبشر، هذا أمر لا شك فيه. وفي رحلتنا لنصبح كذلك، ليس هناك ما هو أجمل من البحث في السينما، في الفن، عن فتات الخبز الذي يقودنا عبر الغابة لفهم كيف يمكننا تحقيق ذلك.

اليوم، كما في الماضي، وفي زمن لم يكن التفكير العميق في معنى السيادة للبشر، وفي قيمة التاريخ والإرث والثقافة المتطورة، أكثر إلحاحًا مما هو عليه الآن.

وفي وقت أصبح التساؤل عن معنى الإنسانية وقيمتها أمرًا ضروريًا. يمكننا اللجوء إلى السينما كملاذ مستقل، عالم بلا حدود، لا يمكن احتلاله أو استعماره، لا يمكن امتلاكه أو تحويله إلى سلعة استثمارية، أو تطوير عقارات على غرار الريفيرا .. عالم لا يمارس فيه الإقصاء أو الاضطهاد أو الطرد. عالم بلا عنوان محدد، بلا حاجة إلى تأشيرة دخول.

كم هو مهم أن نظل مندهشين أمام هذا العالم، أن نُدهش بإعجابنا ببعضنا البعض، بدلًا من أن يُسكتنا الذهول أمام قسوتنا وانعدام الرحمة بيننا. أن نرى اختلافاتنا المتعددة ونحتفي بها، بدلًا من الاستسلام للهيمنة الاستبدادية والوحشية المذهلة للحقد.

إن عمليات القتل الجماعي التي ترعاها الدول، والتي تحظى بدعم عالمي، تزرع الرعب في أكثر من مكان في العالم اليوم. الجرائم التي تدينها الهيئات التي أنشأها البشر أنفسهم لمراقبة ما هو غير مقبول في المجتمعات البشرية.

هذه حقائق لا بد من مواجهتها. ولأجل الوضوح، فلنسمّ الأمور بأسمائها. هناك لا إنسانية تُرتكب أمام أعيننا. وأنا هنا لأقول ذلك دون تردد أو شك، ولأعلن تضامني غير المشروط مع كل من يرفضون هذا التواطؤ غير المقبول لحكومات مدمنة على الجشع، تتملّق مدمّري الكوكب ومجرمي الحرب، أيًا كان مصدرهم.

أنا هنا أيضًا لأؤكد إيماني المطلق بالثقافة كأداة للمقاومة، وبأن سينما مستنيرة يمكن أن تلهم عالمًا متحضرًا، تمنحنا لحظة تأمل، لحظة راحة، لحظة إدراك قد تشجعنا على التمسك بأفضل ما فينا—قدرتنا على الافتتان والانفتاح، على الذكاء والتساؤل، على الإعجاب بمرونة الإنسان وذكائه، وعلى القدرة على النجاة من المحن.

وفي لحظات الأزمات، كما هو الحال الآن، وفي كل مراحل حياتنا، ليس فقط في سن الخامسة والعشرين، علينا أن نتذكر أن دعم الإنسانية لا يعني أبدًا معاداة أحد. أن التضامن مع البشر يعني التضامن مع كل إنسان يؤمن بالنزاهة والتمثيل العادل. وأن حرية تسمية القمع والجرائم، أينما وُجدت، هي من حقوقنا الأساسية التي تستحق الاحترام والولاء ..في سعينا، رغم كل الصعاب، لتحقيق عدالة حقيقية على هذه الأرض، في بناء إيمان شجاع بإمكانية التفاهم البشري واحترام الاختلاف والكرامة للجميع دون استثناء.

أصدقائي، دعونا نؤمن بالسينما

ادعموا الشاشات الكبيرة أينما وجدتموها، شاهدوا كل شيء عليها، واطلبوا من خدمات البث أن تفي بوعدها بدعم السينما الكبيرة، وأن تستثمر جزءًا كبيرًا من أرباحها في بناء وترميم وإنعاش دور السينما في كل مكان.

ادعموا الموزعين والمشغلين الجريئين بشراء التذاكر مرارًا وتكرارًا، ليبقى عالم السينما حيًا، متجددًا، لا نهاية له.

احفظوا كنوز السينما، 14 عقدًا من الأفلام التي تشكل آثارًا لا تُقدّر بثمن لروحنا الإنسانية، والتي بدونها سيكون مستقبلنا، ناهيك عن مستقبل السينما، أفقر بشكل لا يمكن تخيله.

ازرعوا ثقافة سينمائية نابضة بالحياة، عالمية، شبابية، أنشئوا مهرجانات سينمائية في القرى، في المدن الكبرى، في مخيمات اللاجئين، في المدارس، في دور الرعاية، على عجلات، على سفن في عرض البحر.

لمَ لا؟ كلما زاد عددها، زاد بهاؤها.

أنا فخورة جدًا بوجودي هنا، في هذا المكان، بينكم.

هنا وجدتُ بيتًا. هنا، وجدتُ الحياة.

شكرًا لك، مهرجان برلين الدولي، على هذه الصندوق السحري الذي حمل لي الإيمان، وعلى كل الأصدقاء الذين التقيتهم هنا، وعلى أربعين عامًا من الاحتفال والاكتشافات، وعلى هذا الدب اللامع الرائع.

عاشت السينما، بوعدها الذي لا ينتهي، بنورها الذي لا ينطفئ.
فلنواصل النظر إلى الأعلى.
بكل الحب،
تيلدا.

# فن # مهرجان برلين السينمائي # طوفان الأقصى # حرب غزة # سينما # السينما العالمية

صورة قابض الأرواح في السينما: كيف تغلب المخرجون على هاجس الموت
كيف يعيد فيلم «Flow» تعريف البقاء في عالم مغمور
مسار تيريزا الأزرق: رحلة عجوز في الأمازون

فن